الموقف الديني – القرآن والخلق وأصل الإنسان (5/6)

هل يتعارض الدين مع العلم؟
سؤالٌ قديم بقدر ما هو متجدد، يعود في كل مرة تُثار فيها قضية “نظرية التطور”.
منذ أن أعلن داروين فكرته عن أصل الأنواع، والعقول الدينية والفكرية تتساءل:
هل الإنسان نتاج صدفةٍ عمياء؟ أم مخلوق مكرَّم نُفخ فيه من روح الخالق؟

في هذا المقال من سلسلتنا “نظرية التطور… حقيقة علمية أم فرضية فلسفية؟”، نستعرض الموقف الديني من نظرية التطور، بدءًا من القرآن الكريم والسنّة النبوية، مرورًا بمواقف العلماء المسلمين الكبار، ثم نقارنها برؤى اليهودية والمسيحية، ونختم بآراء العلماء اللادينيين وحركة التصميم الذكي التي أعادت النقاش إلى جذوره الفلسفية والعلمية معًا.


أولًا: الموقف القرآني

يؤكد القرآن الكريم على أن الإنسان مخلوق مكرَّم خلقه الله مباشرة من طين، قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ﴾ (المؤمنون: 12).

كما جاء في آيات أخرى:

  • ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ (الحجر: 28).
  • ﴿خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ (آل عمران: 59)،
  • ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ (آل عمران: 59).

وهذه النصوص واضحة وصريحة في أن الإنسان لم يتطور من مخلوق أدنى، بل خُلق في أحسن صورة منذ البداية.


ثانيًا: تفنيد دعوى تطور الإنسان من قرد

من أكثر ما شُوِّه في نظرية داروين هو مقولة: “الإنسان أصله قرد”.

  • داروين نفسه لم يقل ذلك نصًا، بل تحدث عن وجود “سلف مشترك” بين الإنسان والقردة العليا.
  • السجل الأحفوري لم يقدّم حتى الآن حلقة انتقالية كاملة تُثبت هذا الانتقال. ما عُثر عليه مجرد شظايا (مثل “لوسي” و”إنسان النياندرتال”)، واختلف العلماء في تصنيفها: هل هي بشرية أصيلة أم قرود منقرضة؟
  • القرآن الكريم يرد هذه الفرضية مباشرة بإثبات الخلق المستقل للإنسان.

وقد أكّد علماء حفريات مثل ستيفن جولد (Stephen Jay Gould، 1977م) أن السجل الأحفوري “يشهد على الانقطاعات أكثر مما يشهد على التدرج”.


ثالثًا: أقوال كبار العلماء المسلمين

أجمع كبار العلماء المسلمين المعاصرين على رفض “التطور الكلي” (Macroevolution) الذي يزعم أن الإنسان نتج عن تطور حيواني، بينما ميّز بعضهم بين “التكيف” و”التطور”.

  • الشيخ عبد العزيز بن باز: أكد في فتاواه أن القول بأن الإنسان أصله قرد “كفر صريح ومصادمة لنصوص القرآن”.
  • الشيخ محمد متولي الشعراوي: وضّح أن الله خلق كل كائن بذاته، وأعطاه القدرة على التكيف في حدود بيئته، لكن لم يُخلق كائن من كائن آخر.
  • الشيخ علي الطنطاوي: أشار في مقالاته إلى أن دعوى تطور الإنسان خرافة لا دليل عليها، وأن القرآن حسم المسألة منذ البداية.

رابعًا: الفرق بين التكيف والتطور

العلم الحديث يفرّق بين:

  1. التطور الجزئي (Microevolution): تغييرات طفيفة تحدث داخل النوع الواحد بمرور الزمن، مثل تنوع ألوان العصافير أو مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية. وهذا مقبول علميًا ولا يتعارض مع النصوص الدينية.
  2. التطور الكلي (Macroevolution): انتقال نوع إلى نوع آخر مختلف جذريًا (مثل القول بتحول الزواحف إلى طيور، أو القرود إلى بشر). وهذا هو موضع الرفض، لأنه يفتقر إلى الدليل القاطع، ويصادم النصوص الشرعية.

خامساً: موقف الديانات الأخرى

أ- اليهودية

  • التوراة (سفر التكوين) تنص على أن الله خلق الإنسان على صورته:
    “فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرًا وأنثى خلقهم.” (التكوين 1:27)
  • الاتجاه التقليدي في اليهودية الأرثوذكسية يرفض التطور ويرى أنه يتعارض مع النصوص الصريحة.
  • لكن بعض المفكرين اليهود المعاصرين حاولوا التوفيق، فاعتبروا أن أيام الخلق السبعة رمزية، وأن الله خلق الكائنات عبر مسار تطوري موجَّه.

ب- المسيحية

  • الكنيسة الكاثوليكية في البداية (القرن التاسع عشر) رفضت بشدة نظرية داروين وعدّتها هرطقة.
  • في القرن العشرين، خصوصًا مع البابا يوحنا بولس الثاني (1996)، ظهرت لهجة أكثر قبولًا، إذ قال: “نظرية التطور أكثر من فرضية.”
  • بعض الطوائف البروتستانتية (خصوصًا في أمريكا) لا تزال ترفض التطور بالكامل، وتؤمن بالخلق المباشر (Creationism).
  • تيار “التطور الموجّه” (Theistic Evolution) يحاول التوفيق بين الإيمان المسيحي والعلم، بالقول إن الله هو من أدار عملية التطور.

ج- مقارنة مع الإسلام

  • الإسلام يختلف في وضوحه وحسمه: النصوص القرآنية قطعية في أن الإنسان خُلق من طين ونُفخ فيه من روح الله، وأن آدم أب البشر جميعًا.
  • لا يقبل الإسلام أن يكون الإنسان ابن سلالة حيوانية سابقة.
  • في الوقت ذاته، يفتح الإسلام باب التأمل في التغيرات الجزئية (التكيف) باعتبارها آية من آيات الخلق.
  • بالتالي، موقف الإسلام أكثر وضوحًا وحسمًا من بعض المواقف اليهودية والمسيحية التي تميل للتوفيق الرمزي أو المرن.

✦ وهكذا يتضح أن الموقف الديني، خصوصًا الإسلامي، ليس موقفًا ضد العلم، بل موقف يميّز بين العلم التجريبي الثابت، والفلسفات المادية التي أُلصقت بالعلم.


سادسًا: موقف علماء لا دينيين من رفض النظرية

من المهم التأكيد على أن الرفض العلمي لنظرية التطور لم يأتِ فقط من علماء متدينين، بل حتى من بعض العلماء والفلاسفة اللادينيين الذين رأوا أن النظرية، خصوصًا في جانبها المتعلق بتفسير نشأة الحياة وتطور الكائنات العليا، لا تصمد أمام النقد العلمي الدقيق.

  1. كارل بوبر (Karl Popper، 1972م) – فيلسوف العلم الشهير، الذي لا يُعرف بتديّنه، وصف نظرية التطور لفترة بأنها “فرضية ميتافيزيقية أكثر من كونها نظرية علمية قابلة للاختبار”. فرغم أنه حاول لاحقًا التخفيف من نقده، لكنه أكد على أن قابلية “التطور الكلي” للتحقق التجريبي ضعيفة للغاية.
  2. مايكل دانتون (Michael Denton، 1985م) – عالم أحياء أسترالي غير متدين، في كتابه “التطور: نظرية في أزمة” Evolution: A Theory in Crisis، بيّن أن سجل الحفريات لا يدعم فكرة التدرج التطوري، وأن التعقيد الخلوي أكبر بكثير مما كان يتصوره داروين.
  3. توماس ناغل (Thomas Nagel، 2008م) – فيلسوف أمريكي بارز، لا ديني، في كتابه “العقل والكون: لماذا الفكرة المادية الداروينية فاشلة” Mind and Cosmos، اعتبر أن الاعتماد على التطور الدارويني لتفسير العقل والوعي ضرب من الوهم، وكتب صراحة: “المادية النيو-داروينية نظرية شبه مؤكدة على أنها زائفة.”
  4. فرِد هويل (Fred Hoyle، 1981م) – عالم فلك بريطاني (ملحد سابقًا)، اشتهر بقوله إن الاعتقاد بأن الحياة نشأت صدفة “يشبه الاعتقاد بأن إعصارًا مرّ بمكب خردة فكوّن طائرة بوينغ 747 جاهزة للطيران”.
  5. مات ريدلي (Matt Ridley) – صحفي علمي بريطاني لاديني، ورغم أنه يؤيد بعض جوانب التطور، إلا أنه في مقالات عدة انتقد “التفسيرات المبسطة والجزئية” التي يقدمها أنصار التطور في قضايا مثل نشأة الأخلاق والوعي، مؤكدًا أن العلم لم يقدم إجابة مقنعة بعد.

هؤلاء العلماء وغيرهم — رغم اختلاف خلفياتهم الدينية أو غيابها — أقروا بأن نظرية التطور في صورتها الكلاسيكية والحديثة ما تزال تعاني من ثغرات معرفية وعلمية، خاصة في ما يتعلق بسجل الحفريات، نشأة الحياة، والتعقيد غير القابل للاختزال. وهذا يعزز أن الرفض ليس موقفًا دينيًا بحتًا، بل له أيضًا أساس علمي عقلاني.


سابعاً: الموقف الغربي: التصميم الذكي

من اللافت أن هناك تيارًا في الغرب أيضًا يشكك في الداروينية ويطرح بدائل أكثر انسجامًا مع فكرة الخلق، يعرف باسم حركة التصميم الذكي (Intelligent Design).

أ- مايكل بيهي (Michael Behe)

  • أستاذ الكيمياء الحيوية بجامعة ليهاي الأمريكية.
  • صاحب كتاب صندوق داروين الأسود (1996).
  • قدّم مفهوم “التعقيد غير القابل للاختزال” (Irreducible Complexity)، مثل السوط البكتيري وجهاز المناعة، التي لا يمكن أن تنشأ تدريجيًا.

ب- ويليام ديمبسكي (William Dembski)

  • فيلسوف وعالم رياضيات.
  • كتب The Design Inference (1998)، حيث شرح كيف تشير الأنماط المعقدة إلى “مصمم ذكي”.

ج- فرانسيس كولينز (Francis Collins)

  • مدير مشروع الجينوم البشري سابقًا.
  • رغم إيمانه بالتطور الموجّه، إلا أنه أكد أن الـ DNA يحمل “لغة الله” (كما في كتابه The Language of God، 2006).

هذا التيار يلتقي مع الموقف الإسلامي في رفض الصدفة العمياء والتأكيد على أن الكائنات تحمل بصمات تصميم هادف.


الخلاصة

إنّ قضية التطور ليست مجرد مسألة علمية بحتة، بل هي قضية إيمانية وفكرية أيضًا.

  • اليهودية والمسيحية بين رافض صريح ومتأول رمزي.
  • الإسلام قدّم موقفًا حاسمًا، يجمع بين رفض التطور الكلي، وقبول التغيرات الجزئية كتجليات لحكمة الخالق.
  • وفي عالم اليوم، نجد أن الموقف الإسلامي يتقاطع مع تيار عالمي متنامٍ بين العلماء (حركة التصميم الذكي) الذين يرون أن الكون والحياة تحمل بصمات خالق حكيم، لا آثار الصدفة العمياء.

وهكذا نرى أن قضية أصل الإنسان لم تكن يومًا صراعًا بين “العلم والدين”، بل بين تفسيرين للحقيقة:
تفسيرٍ ماديٍّ يرى في الإنسان نتاج مصادفة كيميائية وتطورٍ أعمى، وتفسيرٍ إيمانيٍّ يرى فيه نفخةً من روح الله، مخلوقًا مُكرَّمًا سخّر له الكون، وأودع فيه القدرة على الفهم والاختيار والإبداع.

لقد قدّم الإسلام موقفًا واضحًا ومتوازنًا: فهو لا يرفض العلم ولا يقدّسه، بل يُعيده إلى موضعه الصحيح كأداة لفهم سنن الخالق في الخلق، لا كبديل عن الخالق نفسه.
فالتغيرات المحدودة في الكائنات – التي يصفها العلم الحديث بالتكيف – لا تتعارض مع الإيمان، بل تُعدّ آية من آيات الله في التنوع والتجدد.
أما الادعاء بأن الإنسان سليلُ حيوانٍ أو نتاجُ مصادفةٍ، فهو خروجٌ من دائرة العلم إلى عقيدة مادية تتلبّس بلباس العلم.

✦ بهذا يصبح واضحًا أن الإسلام لا يقف ضد العلم، بل يفرّق بين علم ثابت مدعوم بالأدلة وبين فرضيات فلسفية متناقضة مع الوحي، وأن القرآن والسنة يقدمان رؤية متكاملة تحفظ للإنسان مكانته المكرمة، وفي الوقت نفسه لا تتناقض مع الاكتشافات العلمية الراسخة.

وفي عالمٍ يزداد فيه الجدل بين “المخبر والمحراب”، يبرز سؤالٌ أعمق:
هل يمكن أن يجتمع العلم والإيمان في رؤية واحدة تشرح نشأة الحياة ومغزاها؟
هل التطور حقيقة علمية خالصة أم فرضية فلسفية صاغتها عقول تبحث عن معنى للوجود بلا خالق؟

✦ عن هذه الأسئلة المصيرية سنبحر معًا في المقال السادس والأخير من السلسلة:
“رؤية شاملة – بين العلم والإيمان”
،
حيث نضع النظرية في ميزان الفلسفة والعلم والوحي،
لنقترب أكثر من الإجابة الكبرى:
هل التطور تفسير للحياة… أم بحث الإنسان الدائم عن معنى وجوده؟


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى