الهدهد وسليمان عليه السلام: قصة طائر علَّم أمة

🌿 مقدمة:
في عالم الطيور، يندر أن نجد مخلوقًا صغيرًا يُذكر في القرآن الكريم بمكانةٍ مهيبة، ويخلّد دوره في واحدة من أعظم رسالات الأنبياء. إنّه الهدهد، ذلك الطائر الذي لم يكن مجرّد رسول يحمل خبراً، بل كان حاملًا لمهمة، وكاشفًا لقضية عقدية غفل عنها قوم بأكملهم. فما الذي يجعل طائرًا صغيرًا يحتل هذا المقام الكبير في القرآن؟ وكيف وظّف نبي الله سليمان عليه السلام مخلوقات الطبيعة في إقامة دعوة التوحيد؟ هذا ما سنكشفه في السطور التالية.
📖 القصة كما وردت في القرآن الكريم
قال تعالى:
﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾
— سورة النمل، الآيات 20-22
ثم يستكمل الهدهد حديثه:
﴿إِنِّي وَجَدتُ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ﴾
— النمل، 23-24
هذه الآيات تصف الموقف الذي غاب فيه الهدهد عن جيش سليمان عليه السلام، وكيف عاد ليُفاجئه بخبرٍ خطير، مفاده أن هناك قومًا في مملكة “سبأ” (في اليمن) يعبدون الشمس من دون الله، تحكمهم امرأة (بلقيس)، ذات عرش عظيم.

🧠 تأملات وتفاسير قرآنية
جاءت هذه القصة في سياق الحديث عن تسخير الله لسليمان عليه السلام الجن والإنس والطير. وقد فسّر العلماء هذا المقطع بعدّة تأملات:
- ابن كثير في تفسيره يرى أن الهدهد كان مخلوقًا ذكيًا فطنًا، أُوتي بصرًا حادًا جعله يرى ما لم يره غيره.
- القرطبي فسّر قوله تعالى: “أحطت بما لم تُحط به” بأنه دليل على أن الله قد يمنح بعض المخلوقات علماً يسبق به الأنبياء في بعض الجوانب، دون أن ينتقص ذلك من مقام النبوة.
- الطبري قال إن سليمان كان يراقب الطيور ليرى من يتخلف عن موضعه، وقد عرف مكان كل طير باسمه وموقعه، مما يدل على نظام جيشه ودقّته.
- الرازي توقف طويلًا عند الحوار بين سليمان والهدهد، وعدّه نموذجًا للحوار العقلي القائم على البرهان والمنطق.
🕊️ العبرة من القصة
- أهمية التوحيد: رغم صغر حجم الهدهد، إلا أنه فهم التوحيد، وأن السجود للشمس شركٌ بالله.
- الغيرة على العقيدة: لم يسكت الهدهد عن المنكر، بل أتى يخبر نبي الله بالأمر.
- مكانة العقل والبرهان: يقول الهدهد: “بنبإ يقين”، دلالة على أنه لا ينقل مجرد إشاعة، بل خبرًا موثوقًا.
- المهارة في الخطاب: استخدم الهدهد عبارات ذكية ومقنعة، ليُفلت من العقاب ويقنع النبي.
📜 هل وردت القصة في التوراة أو الإنجيل؟
لا توجد في الكتاب المقدس (التوراة أو الإنجيل) قصة مشابهة لهذه الرواية كما وردت في القرآن. سفر الملوك الأول يذكر أن “ملكة سبأ” جاءت إلى سليمان الحكيم لتختبره بأسئلتها، وأعجبت بحكمته وغناه، لكنها لم تكن قصة تتعلق بطائر أو بمبعوث، ولم يكن هناك ذكر للهدهد، ولا سجود للشمس.
وجه الاختلاف:
في التوراة، القصة تدور حول استعراض الحكمة والثراء، دون التطرق لموضوع التوحيد أو العقيدة. بينما في القرآن، الهدف الأساسي من القصة هو إقامة الحجة على عبّاد الشمس، وإظهار دور كل مخلوق — مهما كان صغيرًا — في الدعوة إلى التوحيد.
📚 هل وردت أحاديث نبوية عن الهدهد؟
لا يوجد في كتب الصحاح حديثٌ صريح عن الهدهد مرتبط مباشرة بهذه القصة. لكن العلماء تناولوا القصة في كتب القصص القرآني، مثل “قصص الأنبياء” لابن كثير، كما أوردها كثير من المفسرين ضمن التفاسير المعتمدة.
🧾 العبر والدروس
- كل مخلوق له دور في الحياة، حتى الطائر الصغير.
- الرقابة والانضباط في القيادة: سليمان لم يغفل عن غياب طير واحد.
- لا يُستهان بأي معلومة: إذ قد تكون هي المفتاح لتغيير مصير أمة.
- البلاغة في الحوار: تعلمنا من الهدهد كيف نخاطب بالحكمة والمعلومة.
- دور المرأة في القيادة: رغم كفر قومها، كانت بلقيس ذات عقل راجح.
🪶 الهدهد… نموذج دعوي في ريش طائر
الهدهد لم يكن مجرد طائر، بل سفير توحيد، ومفكر في ريش، حمل قضية عظيمة بكل إخلاص وجرأة، ولم ينتظر تكليفًا، بل بادر. وهكذا يعلمنا القرآن أن القيادة، والشجاعة، والدعوة إلى الله لا تحتاج سلطة، بل بصيرة وإخلاص.