ذاكرة السمك: هل حقًا لا تتجاوز بضع ثوانٍ؟

كم مرة سمعت عبارة «ذاكرته مثل السمك» كناية عن شخص سريع النسيان؟ منذ سنوات طويلة ونحن نردد هذه المقولة وكأنها حقيقة علمية، حتى أصبحنا نظن أن كل الأسماك تملك ذاكرة قصيرة لا تدوم أكثر من ثوانٍ معدودة.
لكن، هل هذه الفكرة صحيحة؟ هل حقًا الأسماك بهذا القدر من الغباء العقلي والنسيان؟ أم أن العلم الحديث له رأي آخر؟ لنغص معًا في أعماق البحار والبحوث لنكتشف مدى قدرة هذه المخلوقات المائية على التذكر والتعلم.
من أين جاءت هذه الفكرة؟
انتشرت فكرة ضعف ذاكرة السمك قديمًا بسبب سلوك بعض الأنواع في الأحواض، إذ تظهر وكأنها تعود لتأكل الطعام من نفس المكان مرات عديدة دون تمييز أو أنها تصطدم بجوانب الحوض مرارًا. هذه السلوكيات فسّرها البعض على أنها نتيجة “ذاكرة منسية”، وأصبحت مقولة “ذاكرة السمك 3 ثوانٍ” شائعة في الثقافة الشعبية والإعلامية.
لكن هذه النظرية لم تكن قائمة على أي بحث علمي جاد، بل كانت مجرد انطباعات بشرية غير مدروسة.
ماذا تقول الأبحاث العلمية؟
تقول الدراسات الحديثة أن هذه المقولة خاطئة تمامًا. في الواقع، أثبتت عدة تجارب أن الأسماك يمكنها الاحتفاظ بالمعلومات لفترات زمنية طويلة نسبيًا، وتُظهر قدرات مذهلة على التعلم والتذكر.
أبرز الأبحاث:
- دراسة جامعة بليموث البريطانية (2003):
- اختبر الباحثون قدرة أسماك ذهبية على تذكر وقت ومكان تقديم الطعام في الحوض.
- اكتشفوا أن السمك تمكن من تذكر التوقيت والمكان لمدة أكثر من شهر.
- (McGregor et al., “Fish Remember: Time-place learning and memory retention in goldfish”, Animal Behaviour, 2003)
- بحث جامعة ماكجيل الكندية:
- وجد الباحثون أن أسماك السلمون تستطيع تذكر موطن ولادتها أثناء هجرتها عبر آلاف الكيلومترات، باستخدام إشارات كيميائية ومغناطيسية، ما يعني أن ذاكرتها قد تمتد لسنوات.
- (Quinn & Dittman, “Pacific salmon migrations and homing”, Reviews in Fish Biology and Fisheries, 1990)
- تجربة على أسماك الزرد (Zebrafish):
- أظهرت أنها قادرة على تعلم مهام معينة والاحتفاظ بها لأكثر من أسبوعين.
- (Gerlai, “Learning and memory in zebrafish”, Behavioural Brain Research, 2003)
الكتب والمراجع العلمية التي تناولت ذاكرة الأسماك:
📚 Do Fish Feel Pain? — Victoria Braithwaite (2010)
📚 The Secret Life of Fish: The Astonishing Truth about Our Aquatic Cousins — Doug Mackay-Hope (2019)
📚 Fish Cognition and Behavior — Edited by Culum Brown et al. (2nd Edition, 2011)
جميع هذه الكتب تناقش السلوك الإدراكي للأسماك، بما في ذلك التعلم والذاكرة.
كيف تعمل ذاكرة السمك؟
تمتلك الأسماك أنظمة عصبية متطورة نسبيًا تتكيف مع بيئاتها المائية المعقدة. يعتمد حجم وقدرة الذاكرة على:
- نوع السمك.
- حجم دماغه.
- طبيعة بيئته (محيط مفتوح أو بيئة معقدة بالشعاب المرجانية).
- الحاجة التطورية (الأسماك المفترسة والفرائس تطورت لتتعلم وتتذكر للبقاء).
أنواع الذاكرة في الأسماك:
- الذاكرة القصيرة المدى: لبضع دقائق إلى ساعات، تساعد على تجنب الأخطار الفورية.
- الذاكرة الطويلة المدى: تمتد لأيام، أسابيع، وحتى سنوات، وتساعدها في التنقل والهجرة والبحث عن الطعام والتكاثر.
أمثلة عملية على ذاكرة السمك:
- أسماك Clownfish (سمكة المهرج) تتذكر أماكن اختبائها في الشعاب.
- أسماك Betta (المقاتلة) تتذكر الخصوم الذين واجهتهم سابقًا.
- أسماك القرش الأبيض تهاجر إلى نفس الشواطئ سنويًا للتكاثر، ما يدل على ذاكرة قوية.
لماذا نحتاج إلى إعادة النظر في مقولة «ذاكرة السمك»؟
التقليل من شأن ذاكرة هذه الكائنات يعكس جهلًا بقدراتها الحقيقية، ويؤدي أحيانًا إلى إساءة التعامل معها في الأسر. تربية الأسماك في أحواض ضيقة خالية من التحفيز البيئي قد يجعلها تتصرف بغرابة، لكنها ليست غبية، بل محرومة من بيئة طبيعية معقدة تحفز ذاكرتها.
الخلاصة:
لقد أثبت العلم أن السمك ليس كما تصفه المقولة الشعبية «ذاكرة السمك». بالعكس، هي مخلوقات ذكية تمتلك ذاكرة طويلة نسبيًا تساعدها على النجاة في بيئات قاسية، والتنقل، وحتى التعلم من أخطائها. علينا احترام هذه الكائنات البحرية وتقدير ذكائها الذي ما زلنا نكتشف أسراره مع كل دراسة جديدة.