سمكة القرموط في مصر القديمة: بين رمز الخصوبة وأساطير النيل

في أعماق النيل، حيث يلتقي الماء بالحياة، عاشت سمكة غريبة الشكل، ضخمة الجسم، خالية من القشور، وتمتلك شوارب طويلة تشبه لحية الكهنة أو أرباب القدماء… إنها سمكة القرموط (Catfish).
قد تبدو للعين المعاصرة مجرد صنف لذيذ من الطعام الشعبي، لكنها عند المصري القديم كانت رمزًا مقدسًا، محفورًا على جدران المعابد، ومذكورًا ضمن الأساطير، ومرتبطًا بقصص الخلق والموت والحياة والخصوبة.

فكيف تحولت سمكة نيلية إلى رمز أسطوري؟
ما علاقتها بأوزيريس، وبالخصوبة، وبالأنوثة المقدسة؟
وهل يُعقل أن تكون مجرد “سمكة” قد لعبت دورًا في الطقوس الدينية للقدماء؟

في هذا المقال، نغوص في رحلة عبر آلاف السنين، لنكتشف الجانب الآخر من سمكة القرموط، رمزًا، طوطمًا، ولغزًا مقدسًا في الحضارة المصرية القديمة.


أولًا: سمكة القرموط في النيل المصري – الكائن الغامض

تُعرف سمكة القرموط باسمها العلمي Clarias gariepinus، وهي واحدة من أقدم الأسماك النيليّة المعروفة للمصريين القدماء. ما يميزها:

  • قدرتها على العيش في المياه قليلة الأوكسجين (خاصية مرتبطة بالخلود والتجدد).
  • شكلها القوي و”شواربها” البارزة التي تُشبه لُحى كبار الكهنة.
  • اختفاؤها وظهورها المفاجئ في المياه الضحلة، مما جعلها ترتبط بالدورات الكونية والنهرية.

ثانيًا: القرموط في الكتابة الهيروغليفية

في نظام الكتابة الهيروغليفية، كانت هناك علامة تُستخدم لتمثيل القرموط:

  • الرمز: 🐟
  • النطق: “mr”
  • المعنى: يُستخدم أحيانًا في كلمات مثل “الحب” أو “الماء” أو “الوفرة”، وكان يُعتقد أن وجود رمز القرموط في الكتابات يرمز إلى الحماية والخصوبة.

📚 يقول Gardiner, Sir Alan في كتابه Egyptian Grammar: Being an Introduction to the Study of Hieroglyphs (1927):
“The catfish symbol, used phonetically as ‘mr’, was one of the earliest and most consistent signs in Proto-dynastic inscriptions. Its recurrence next to fertility signs suggests symbolic associations beyond phonetic value.”


ثالثًا: القرموط وأسطورة أوزيريس

من أشهر الأساطير المصرية: أسطورة أوزيريس وإيزيس. وفيها:

  • قام ست بقتل أخيه أوزيريس، وتقطيعه إلى 14 جزءًا، وألقى بها في النيل.
  • وفقًا لبعض التفسيرات، فإن سمكة القرموط هي الكائن الذي ابتلع جزءًا من جسد أوزيريس (أعضاءه التناسلية)، ولذلك حرّم بعض الكهنة أكلها.

📚 ذكر E. A. Wallis Budge في كتابه The Gods of the Egyptians (Volume II, 1904):
“The catfish was sometimes viewed with suspicion by priests, due to a myth that it devoured a part of Osiris after his dismemberment by Set.”

من المحتمل أن يكون المصريون القدماء قد جمعوا بين العامل الأسطوري (قصة سمكة القرموط وأوزيريس) والعامل البيئي (انتشار السمكة في النيل) لتفسير رمزيتها.القصة الأسطورية ربما كانت وسيلة لتفسير لماذا تعتبر هذه السمكة خاصة أو ذات أهمية دينية، بينما الانتشار الطبيعي لها في النيل أكد على دورها كرمز للخصوبة والوفرة.بهذا المعنى، يمكننا القول إن العاملين (الأسطورة والبيئة) تكاملا معًا لتعزيز مكانة سمكة القرموط كرمز للخصوبة

ورغم هذه القصة التي جعلت من القرموط “محرمًا” في بعض المقاطعات، إلا أنه في مناطق أخرى مثل الدلتا والصعيد، اعتُبر رمزًا للخصوبة وتجدد الحياة، وهو ما يقودنا إلى الجانب الآخر من الرمز.


رابعًا: سمكة الخصوبة المقدسة

القرموط بقدرته على التكيّف والعيش حتى خارج الماء لفترات قصيرة، ارتبط بقدرة الحياة على الانبعاث من الموت، وهي جوهر عقيدة أوزيريس.

  • شكل القرموط الأنثوي الضخم والبيوض الكثيرة جعل منه رمزًا لوفرة النسل.
  • النساء كنّ يتبركن برموزه أثناء مواسم الخصوبة.
  • في طقوس “الفيضان”، كانت القراميط تظهر بكثرة في الحقول الغارقة، مما ربطها بموسم الحياة والنمو.

📚 تقول الباحثة Salima Ikram في كتابها Divine Creatures: Animal Mummies in Ancient Egypt (2005):
“Catfish were sometimes mummified and buried as fertility offerings. Their prolific breeding aligned them with concepts of rebirth and abundance.”


خامسًا: القرموط في الطعام والطقوس

رغم بعض المحرمات الدينية، إلا أن الشعب المصري القديم، خصوصًا الطبقات الدنيا، كانوا يأكلون القرموط ويعتبرونه من الأطعمة الغنية.

  • في بردية “ويلبور” (Wilbour Papyrus)، وردت إشارة إلى أسماك تُشبه القرموط تُستخدم في الولائم.
  • وُجدت عظامها في بعض المقابر من العصر الوسيط، مما يدل على قيمتها.

كما وُجدت نماذج طينية لأسماك القرموط ضمن أدوات الدفن، كقربان أو رمز لحياة أخرى مليئة بالوفرة.


سادسًا: تمثيل القرموط في الفن المصري

في نقوش مقبرة “تي” (الأسرة الخامسة)، يظهر مشهد صيد أسماك القراميط من مستنقعات الدلتا، باستخدام الشباك الرقيقة. هذه الصور لم تكن فقط عن الحياة اليومية، بل كانت رموزًا روحية لصيد ما هو “مخفي” في أعماق الحياة.


القرموط… ما بين الأكل والقداسة

لم يكن القرموط مجرد “سمكة نيلية”، بل كان تجسيدًا حيًا لفكرة المصري القديم عن التجدد، الخصب، والحياة بعد الموت. جمع بين القداسة والطبيعة، بين الطقوس والمائدة، فصار كائنًا رمزيًا غنيًا لا تزال آثاره باقية في الفن، والدين، والأسطورة.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى