الحمى القلاعية (FMD): التهديد العابر للحدود لعالم الثروة الحيوانية

في عالم الزراعة والإنتاج الحيواني، لا يوجد ما يثير القلق أكثر من مرض وبائي قادر على شلّ حركة الثروة الحيوانية في دول بأكملها، ومع تزايد موجات الأمراض العابرة للحدود بفعل تغير المناخ وحركة التجارة والتهريب، يعود إلى السطح مجددًا اسم مرض الحمى القلاعية (Foot and Mouth Disease – FMD)، كأحد أكثر التهديدات ضراوة للماشية، وأكثرها قدرة على الانتشار والخراب الاقتصادي.
الخبر الصادم الذي تناقلته وسائل الإعلام الإقليمية والعالمية هذا الشهر هو تسجيل ظهور سلالة “SAT1” من الحمى القلاعية في العراق، وهي سلالة نادرة لم يسبق رصدها من قبل في المنطقة، مما أثار مخاوف متزايدة بشأن قدرة اللقاحات الحالية على مواجهتها، وسرعة انتشارها في ظل ضعف السيطرة البيطرية في بعض المناطق الحدودية.
لكن الحمى القلاعية ليست مجرد مرض عابر. إنها اختبار حقيقي لنُظم الطوارئ البيطرية، وفعالية استراتيجيات التحصين، ومتانة سلاسل الإنتاج الحيواني في أي دولة.
في هذا المقال، نسلط الضوء على هذا المرض، بدءًا من مسببه، وآلية الإصابة، وحتى العترات المختلفة وتاريخ ظهورها في مصر والمنطقة، مع التركيز على سبل المواجهة، والتحذيرات الموجهة للمربين.
🐄 ما هو مرض الحمى القلاعية؟
الحمى القلاعية مرض فيروسي شديد العدوى يصيب الحيوانات ذات الظلف المشقوق، مثل الأبقار، والجاموس، والأغنام، والماعز، والخنازير. يسببه فيروس من جنس Aphthovirus التابع لعائلة Picornaviridae. يتميز المرض بظهور تقرحات على الفم، والأقدام، والضرع، ويتسبب في هبوط حاد في إنتاج اللبن، وعرج شديد، وأحيانًا الوفاة في الحيوانات الصغيرة.
هذا المرض لا ينتقل إلى الإنسان غالبًا، لكنه كارثي اقتصاديًا، حيث يؤدي إلى حظر الصادرات الحيوانية، وتدمير الإنتاج، ونفقات ضخمة للتحصين والمكافحة.

🧬 المسبب المرضي وآلية تطور الإصابة
المسبب المرضي لمرض الحمى القلاعية هو فيروس الحمى القلاعية (FMDV)، وهو فيروس سريع التحور من عائلة Picornaviridae، جنس Aphthovirus. يمتلك قدرة فائقة على الانتقال والتكاثر في أنسجة الحيوانات المجترة.
تبدأ العدوى عادةً عند دخول الفيروس إلى الجسم عبر:
- الجهاز التنفسي العلوي (عن طريق استنشاق الفيروس من الهواء الملوث)،
- أو الفم والجهاز الهضمي (من خلال الأعلاف أو المياه الملوثة)،
- أو الجلد المجروح أو الأغشية المخاطية.
بمجرد دخوله، يلتقطه الجهاز اللمفاوي ويبدأ بالتكاثر في البلعوم والأغشية اللمفاوية الفموية. خلال فترة الحضانة (من 2 إلى 14 يومًا)، ينتقل الفيروس عبر الدم (Viremia) إلى أعضاء الجسم المختلفة، خاصة اللسان، الضرع، الحوافر، الفم، القلب.
تبدأ الخلايا المصابة بالموت والتحلل، مما يؤدي إلى ظهور الحويصلات المؤلمة والتقرحات، بالإضافة إلى إفرازات وسيلان لعابي مفرط وارتفاع شديد في الحرارة. كما يؤدي إلى خلل في عضلة القلب لدى العجول، وغالبًا ما ينتهي بنفوق سريع، وهو ما يُعرف بـ”الحمى القلاعية القلبية” (FMD Myocarditis).
الفيروس قادر على العيش في البيئة لفترات طويلة، خاصة في درجات الحرارة الباردة والرطبة، وهو ما يساهم في استدامة انتشاره حتى بعد انتهاء الأعراض السريرية.
🦠 السلالات وأنواعها ونشأتها
هناك 7 سلالات رئيسية للفيروس (A, O, C, Asia1, SAT1, SAT2, SAT3). تُقسم إلى “pools” إقليمية، ويُعد SAT1 من السلالات الأفريقية الذي ظهر مؤخرًا في الشرق الأوسط لأول مرة.
- SAT1: سلالة غريبة على المنطقة، ارتبطت مؤخراً بتفشيات في العراق والبحرين والكويت وتركيا.
- SAT2: ظهرت سابقًا في مصر والعراق، وأدت لتفشيات قوية في 2023 .
- مصر شهدت تفشيًا في 2006 بناءً على ورود من إثيوبيا.
🌍 جدول العترات الفيروسية للحمى القلاعية في مصر والمنطقة
العترة | الدولة / المنطقة | سنة الظهور | ملاحظات |
---|---|---|---|
O | مصر، السودان، السعودية | مستوطنة منذ السبعينيات | من أكثر العترات شيوعًا في مصر والمنطقة؛ عديدة الطفرات |
A | مصر، ليبيا، العراق | مصر (2006، 2012) | تسببت في موجات وبائية؛ لوحظت طفرات تغير من فعالية اللقاح |
SAT2 | مصر، ليبيا | مصر (2012) | سُجلت لأول مرة في مصر عام 2012 وتسببت في خسائر فادحة |
SAT1 | العراق، البحرين (حاليًا) | 2025 | أول ظهور في هذه المنطقة؛ “غريب جغرافيًا” حسب منظمة الفاو |
Asia1 | إيران، باكستان، أفغانستان | دورية (غير مصر) | لم تُسجل في مصر؛ تظهر في آسيا الغربية والوسطى |
C | غير نشطة عالميًا حاليًا | آخر رصد: الستينيات | يُعتقد أنها انقرضت؛ لم تُسجل في مصر أو المنطقة مؤخرًا |
📌 ملاحظات:
- تمثل العترات O وA وSAT2 التهديد الأكبر لمصر حاليًا، ويتم تضمينها في برامج التحصين الثلاثي.
- ظهور SAT1 عام 2025 يُعد مؤشرًا على تغير ديناميكية الفيروسات وانتقالها عبر الحدود الجغرافية.
- برامج التحصين يجب أن تُحدَّث بناءً على العترات المتداولة جينيًا، لا فقط اسم النمط المصلي.
- الوضع الوبائي الحالي
- العراق: منذ يناير 2025، تم تسجيل أكثر من 3000 حالة، و654 نفوق بين الجاموس، وانتشار المرض في 7 محافظات بما فيها بغداد و(الأول).
- الكويت: أبلغت منظمة WOAH بتفشي 9 نقاط إصابة بين الأبقار.
- البحرين: حالات في محطات الحجر .
- مصر: رغم ارتفاع حالة الاستعداد خشية عبور SAT1، تُعلن السلطات عدم وجود إصابات حالية، مع مشاريع تحصين مكثف.

🧪 التشخيص: كيف نكشف المرض؟
🔍 الأعراض:
- ارتفاع درجة الحرارة (40–41°C)
- حويصلات في الفم، اللسان، الحوافر، والضرع
- لعاب مائي مفرط، إعياء، توقف عن الأكل
- نفوق سريع في صغار المواشي (خاصة الجاموس).

🔬 الفحوصات المعملية:
- الكشف عن الفيروس عبر RT‑PCR = أدق منهج لتحديد السلالة.
- ELISA: لقياس الأجسام المضادة.
- الزرع الخلوي ـ يحدد السلالة ونمطها الوراثي.
- المسح الجيني لتحديد نقطة المنشأ والانتقال .
🛡️ الوقاية والسيطرة
🧪 الوقاية:
للوقاية من الحمى القلاعية:
- استخدام لقاحات متعددة العترات بناءً على العترات المنتشرة حاليًا في الدولة.
- فرض الحجر البيطري على الحيوانات الجديدة أو المستوردة.
- التشديد على تعقيم وسائل النقل، والأحذية، والأدوات المستخدمة في المزارع.
- تعزيز التوعية بين المربين حول أهمية الإبلاغ السريع.
- دعم المختبرات البيطرية لتسريع التشخيص.
💉 العلاج:
لا يوجد علاج مباشر، والإجراءات العلاجية تعتمد على:
- خفض الحمى وإعطاء فيتامينات وتعويض السوائل.
- عزل المصابون عن القطيع.
- التخلص الصحي (برنامج التخلص الآمن) للمرضى بشدة.
- في حالات نادرة: استعمال مضادات فيروسية تجريبية تحت إشراف بيطري.
📝 توصيات للدول لمنع تفشي سلالات جديدة مثل SAT1
- تعزيز إجراء إنذارات مبكرة عبر شبكات الاختبار.
- إيصال اللقاحات المناسبة للسلالات المنتشرة.
- تدريب الأطباء البيطريين على أخذ العينات وتحليلها.
- تعزيز الرقابة الجمركية على الحيوانات ومنتجاتها.
- إجراء تمارين مواجهة في الواقع لتربية الجاهزية.
- نشر الوعي لدى المربين عن الخطوة الصحيحة عند ظهور الأعراض.
📣 ماذا يجب على المربي أن يفعل؟
في حال رصد أعراض مثل تقرحات الفم، اللعاب الزائد، العرج، والحمى:
- عزل الحيوان فورًا.
- إبلاغ أقرب وحدة بيطرية أو إدارة الطب البيطري بالمحافظة.
- عدم نقل الحيوانات المصابة حتى وإن بدت “تتعافى”.
- تطبيق تدابير النظافة الصارمة، وغسل المعدات بمطهرات قوية مثل الصودا الكاوية أو الفورمالين.
وختامًا، التزامك يعزز الأمن الحيوي والإنتاجي، ويحمى مجتمعك ومجتمعات الدول المجاورة.
📌 الرسالة الأخيرة:
ظهور العترات الغريبة مثل SAT1 يُعيدنا إلى واقع جديد: الأمراض لن تحترم الحدود، والفيروسات تتحور أسرع مما نتصور.
إذا لم تتحرك الدول بحزم، فقد نجد أنفسنا في وضع مشابه لأفلام الخيال العلمي، حيث تنتشر الأوبئة الحيوانية أسرع من قدرتنا على احتوائها.
تعليق واحد