الغراب: أذكى المخلوقات ومعلم البشرية الذي ظلمته الخرافات

ما أن ترى غرابًا يحلّق فوقك، حتى تتسلّل إلى ذهنك مشاعر غريبة: هل هو نذير شؤم؟ هل يحمل رسالة خفية؟
تتكرّس هذه النظرة في ثقافتنا الشعبية، من الأمثال إلى القصص، حتى أصبح الغراب رمزًا للتشاؤم، يُطارَد بنظرات الريبة ويُلاحَق بالصياح أو التهديد.
لكن مهلاً… من قال إن الغراب مجرد طائر نحس؟
الواقع أن هذا الكائن الأسود، الذي ظلمه الخيال الشعبي، يُعد من أذكى المخلوقات على الأرض، ويكاد ينافس الشمبانزي والدلافين في قدراته العقلية.
بل وأكثر من ذلك: الغراب كان أول مُعلّم للبشرية، كما ذكره القرآن الكريم في قصة قابيل وهابيل. فما هي حقيقته؟ ولماذا اتُّهِم زورًا؟ وما الذي يجعل العلماء يقفون مشدوهين أمام عبقريته؟
في هذا المقال، سنكتشف معًا الوجه الحقيقي للغراب: من عبقريته المذهلة، إلى إنجازه التاريخي كأول كائن علّم الإنسان، وسنُفكّك أوهام الشؤم التي التصقت به ظلمًا وعدوانًا.
الغراب في القرآن: المعلم الأول للإنسان
يُعدّ الغراب أول من علّم الإنسان كيف يدفن موتاه، في مشهد خالد صوّره القرآن الكريم:
قال تعالى:
{فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابٗا يَبۡحَثُ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُرِيَهُۥ كَيۡفَ يُوَٰرِي سَوۡءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31]
في هذه الآية، يُبعَث الغراب ليُرينا فعلاً راقيًا وإنسانيًا: الدفن، أحد أرقى مظاهر الحضارة.
هذا المشهد وحده كافٍ ليُعيد للغراب اعتباره، ويضعه في مصاف الكائنات الملهمة.
لماذا الغراب أذكى الطيور؟
الغربان تنتمي إلى فصيلة “الغرابيات” (Corvidae)، وتُظهر قدرات عقلية مدهشة جعلت العلماء يصنّفونها في مصاف الثدييات العليا.
قدراته الذهنية:
- استخدام الأدوات:
يصنع الغربان أدوات من الأغصان والأسلاك لصيد الحشرات! - حلّ المشكلات المعقدة:
تجتاز اختبارات منطقية قد تعجز عنها قردة الشمبانزي. - الذاكرة القوية:
تتذكّر وجوه البشر وتفرّق بين من يُطعمها ومن يؤذيها حتى بعد سنوات. - الوعي الاجتماعي:
تُحذّر بعضها من الخطر، وتتعاون للحصول على الطعام، وتُراقب من يُراقبها! - التفكير المجرّد:
تُخطّط للغد، وتُخفي الطعام في أماكن مختلفة، وتُقارن بين الحلول.
مواقف حقيقية أثبتت ذكاء الغربان
- تجربة “الغراب نيو كاليدونيا”:
غراب استخدم 3 أدوات متتالية ليصل إلى طعام في أسطوانة – وهي خطوة ذهنية معقدة تُظهر تسلسل التفكير. - في اليابان:
تُسقِط الغربان المكسرات تحت السيارات عند إشارات المرور لتكسرها، ثم تلتقطها عندما تتوقف السيارات! - في أمريكا:
عُرف عن بعض الغربان أنها “تنتقم” من صيادين أطلقوا النار على أفراد من جماعتها.
الغراب ضحية التشاؤم
من أين جاء هذا الظلم؟
في أغلب الثقافات، ارتبط الغراب بالموت والخراب بسبب:
- لونه الأسود (رمز الموت عند بعض الشعوب)
- صوته الغريب
- تواجده حول الجثث (لأنه من الطيور الكانسة)
لكنه في الحقيقة يؤدي دورًا بيئيًا هامًا في تنظيف الطبيعة من البقايا العضوية، شأنه شأن النسور.

ثقافات أنصفته:
- في الأساطير النوردية:
كان الإله “أودين” يملك غرابين يطوفان العالم ويأتيانه بالأخبار. - في حضارات الأمريكيين الأصليين:
يُعتبَر الغراب رمزًا للحكمة والمكر الإيجابي.
لماذا نحتاج لإعادة النظر؟
- لأنه من الظلم ربط الذكاء بالشكل فقط.
- لأنه أحد الكائنات النادرة التي علمتنا درسًا حضاريًا في الدفن.
- لأن الأبحاث العلمية أثبتت عبقريته بما لا يدع مجالًا للشك.
الغراب ليس مجرد طائر أسود غريب الصوت…
إنه معلم، ومُفكر، ومهندس، وعضو فعّال في منظومة الطبيعة.
لقد آن الأوان لردّ الاعتبار لهذا الكائن العبقري، وتقديره لما هو عليه فعلًا: أحد أذكى مخلوقات الأرض، لا “نذير شؤم” كما قيل ظلمًا.