كيف استُغلت نظرية التطور سياسيًا وفكريًا؟ (4/6)

لم تظل نظرية التطور حبيسة المختبرات والأبحاث البيولوجية، بل تجاوزت حدودها العلمية لتصبح واحدة من أكثر الأفكار تأثيرًا في تشكيل الثقافة والسياسة خلال القرنين الماضيين. فمنذ نشر تشارلز داروين (1809–1882) كتابه أصل الأنواع عام 1859، تحولت النظرية من محاولة علمية إلى إطار أيديولوجي استغلته قوى سياسية وحركات فكرية لتبرير الاستعمار والعنصرية والإلحاد وحتى الإبادات الجماعية.
الاستعمار الغربي وتبرير السيطرة
أبرز من وسّع استخدام التطور خارج مجال الأحياء كان الفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر (1820–1903)، الذي صاغ مصطلح البقاء للأصلح (Survival of the fittest). سبنسر لم يكن عالم أحياء، لكنه استغل نظرية داروين لتبرير رؤيته في أن التنافس الحر في الاقتصاد والمجتمع يؤدي إلى ترقّي الأمم والأفراد.

هذا التفكير عُرف لاحقًا بـ الداروينية الاجتماعية، وأصبح أداة لشرعنة الفوارق الطبقية، حيث صُوِّرت الفقر والمرض كنتاج طبيعي “لضعف” الفقراء، بدلًا من كونها نتيجة ظلم اجتماعي أو اقتصادي.
النظرية وُظّفت أيضًا في خدمة الاستعمار الأوروبي. ففي القرن التاسع عشر، ادّعى بعض المنظّرين أن الأعراق الأوروبية “أعلى تطورًا”، وأن الشعوب الإفريقية والآسيوية “أقرب إلى الكائنات البدائية”.
هذا الفكر العنصري تسلّل إلى السياسات، ومهّد الطريق لجرائم مثل الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وسوّغ استعباد الشعوب ونهب الثروات وحتى مجازر الكونغو البلجيكية التي قُتل فيها أكثر من 10 ملايين إفريقي.
حتى الأبحاث الأنثروبولوجية في ذلك الوقت كانت تُعرض أحيانًا في معارض البشر (Human Zoos)، حيث جرى عرض الأفارقة والآسيويين ككائنات “بدائية” أمام الجماهير الأوروبية.
الداروينية الاجتماعية: عنصرية مقننة
أول من مدّ الجسر بين التطور والسياسة كان فرانسيس جالتون (1822–1911)، ابن عم داروين ومؤسس علم تحسين النسل (Eugenics).
- دعا غالتون إلى منع “الضعفاء” من الإنجاب وتشجيع الأقوياء والأذكياء، بدعوى تحسين البشرية.
- انتشرت أفكاره في أمريكا وأوروبا، فتحولت إلى قوانين رسمية.

قوانين تحسين النسل في أمريكا
- سنة 1907، أقرّت ولاية إنديانا أول قانون للتعقيم الإجباري.
- بحلول الأربعينيات، كانت أكثر من 30 ولاية أمريكية تطبق برامج تعقيم قسري على السجناء والمعاقين والمرضى النفسيين.
- تشير الدراسات (Kevles, In the Name of Eugenics, 1985) إلى أن أكثر من 60,000 شخص خضعوا لعمليات تعقيم قسري في الولايات المتحدة.
قوانين تحسين النسل في ألمانيا
- في ألمانيا النازية، استُغلت الداروينية لتبرير “التطهير العرقي” تحت شعار تحسين النسل (Eugenics)، وهو برنامج قاد إلى قتل مئات الآلاف ممن اعتُبروا “غير لائقين وراثيًا”.
النازية: البقاء للأصلح يتحول إلى إبادة
استغل أدولف هتلر (1889–1945) أفكار الداروينية الاجتماعية لتبرير مشروعه العرقي.
- في كتابه كفاحي (Mein Kampf)، شبّه البشر بالحيوانات في صراع لا يرحم، حيث يحق للأقوى أن يسود.
- أطلق النازيون برنامج “T4” الذي أدى إلى قتل عشرات الآلاف من ذوي الإعاقات.
- اعتُبر اليهود والغجر والأفارقة “أجناسًا أدنى”، وكانت الإبادة الجماعية مبررة في خطابهم بأنها جزء من “التطور الطبيعي”.


المؤرخ ريتشارد فاينرمان كتب في Darwinism and the Nazi Race Holocaust (1991): “النازية لم تكن لتقوم بالشكل الذي عرفناه لولا الأرضية الفكرية التي وفرتها الداروينية الاجتماعية”.
الماسونية والحركات السرية: من الدين إلى المادية
هنا ندخل المنطقة الأكثر إثارة للجدل. بعض المؤرخين والباحثين يشيرون إلى أن الحركات الفكرية السرية مثل الماسونية والتي ظهرت في أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، رأت في نظرية التطور أداة مثالية لهدم الفكر الديني التقليدي، خصوصًا المسيحية.
فالنظرية بقراءتها المادية تنزع القدسية عن خلق الإنسان، وتقدمه كنتاج صراع عشوائي في الطبيعة بلا خالق. وهذا الطرح انسجم مع التوجهات الفلسفية لـ المحافل الماسونية التي دعمت العلمنة وتراجع سلطة الكنيسة.

- بعض الباحثين مثل إيان تايلور أشار في كتابه In the Minds of Men (1984) إلى أن دوائر فكرية ماسونية وروحانية كانت وراء دعم داروين، لأنه يخدم الفكر المادي العلماني.

وبينما لا توجد وثائق تاريخية دامغة تثبت “مؤامرة ماسونية” وراء نشر النظرية، فإن المؤكد أن التيارات العلمانية والماسونية تبنت النظرية كوسيلة لإعادة تشكيل الثقافة بعيدًا عن الدين.
ماركس وداروين: الأساس الطبيعي للصراع
كارل ماركس (1818–1883) قرأ كتاب داروين بإعجاب كبير.
- كتب إلى زميله إنجلز عام 1860: “كتاب داروين يحتوي على الأساس الطبيعي لنظريتنا”.
- رأى أن الانتخاب الطبيعي عند داروين يوازي “صراع الطبقات” في الماركسية.
- أهدى نسخة من رأس المال إلى داروين، لكن الأخير رفض الإهداء الرسمي خوفًا من توريط اسمه في السياسة.


في الاتحاد السوفيتي، رغم رفض ستالين لبعض تطبيقات الداروينية لصالح أفكار “اللِّيسنكووية” (نسبة إلى تروفيم ليسينكو)، إلا أن الجو العام الإلحادي تبنّى فكرة أن الإنسان نتاج تطور مادي بلا روح، مما خدم الأيديولوجيا الماركسية.
هكذا تحولت النظرية من أداة بيولوجية إلى دعامة فلسفية للمادية التاريخية.
نيتشه وفكرة الإنسان الأعلى
فريدريك نيتشه (1844–1900) لم يعتمد مباشرة على نصوص داروين، لكنه استلهم الجو العام للفكر التطوري.
- اعتبر أن الحياة صراع مستمر بين القوة والضعف.
- دعا إلى “الإنسان الأعلى” (Übermensch) الذي يتجاوز القيم التقليدية ويصنع أخلاقه بنفسه.
- هذه الفكرة وجدت صدى لاحقًا في الفكر الفاشي والنازي.

من التطور إلى الإلحاد المنظم
في القرن العشرين، أصبح ريتشارد دوكينز من أبرز من أعاد توظيف التطور كسلاح فكري ضد الأديان، معلنًا أن “داروين جعل من الممكن أن يكون الإنسان ملحدًا ذكيًا”.
وبذلك تحوّلت النظرية من إطار علمي إلى أيقونة فلسفية لمجموعة من الحركات الإلحادية والمنظمات الثقافية التي دعت إلى استبدال الدين بالعلم المادي.
بين العلم والتوظيف
من المهم أن نفرّق:
- نظرية التطور علم في أصله يحاول تفسير التنوع الحيوي.
- لكن توظيفه في السياسة والفكر حوله إلى سلاح أيديولوجي.
- القوانين الأمريكية، النازية، الاستعمار، الماسونية، الماركسية… كلها شواهد على كيف يمكن أن يُستخدم العلم لتبرير الظلم أو السيطرة.
إن قصة استغلال نظرية التطور تعلمنا درسًا مهمًا: العلم بريء من التلاعب السياسي، لكنه هش أمام التوظيف الأيديولوجي.
وإذا كان العلماء يبحثون في المختبر عن حقيقة الطبيعة، فإن الساسة والفلاسفة قد حوّلوا هذه الحقيقة إلى أداة للصراع، وأحيانًا إلى مبرر للقتل والإبادة.
لقد تجاوزت نظرية التطور حدودها العلمية لتصبح جزءًا من تاريخ الأفكار البشرية، تُستَخدم أحيانًا لبناء نهضات فكرية وثقافية، وأحيانًا لتبرير الاستبداد والعنصرية. هذا التداخل بين العلم والسياسة يفتح الباب أمام سؤال بالغ الأهمية: كيف تعاملت الأديان مع هذه النظرية؟ وهل يمكن التوفيق بين النصوص المقدسة ورؤية التطور؟
هذا ما سنتناوله في المقال الخامس: “الموقف الديني – القرآن والخلق وأصل الإنسان”.